فصل: مطلب قصة هود عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب قصة سيدنا نوح عليه السلام:

{فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده واتركوا هذه الأصنام فإنها ليس بآلهة {ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} فلا تشركوا به شيئا {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ} إن أصررتم على ما أنتم عليه {عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 95} في الدنيا، يريد به الطوفان الذي أعلمه اللّه به وفي الآخرة التعذيب بالنار، قال عليه السلام إني أخاف مع أنه على يقين من ذلك إذ أوحى له به ربه، إلا أنه لا يعلم وقت نزوله أيعاجلها به أم يتأخر {قالَ الْمَلَأُ} الأشراف أولو الحل والعقد {مِنْ قَوْمِهِ} يا نوح {إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ} عن طريق الصواب لأنك تدعونا إلى شيء لم نعرفه نحن ولا آباؤنا فزيفك هذا {مُبِينٍ 60} واضح لا خفاء فيه ردا على نصحه لهم وانما قالوا ذلك لأنه لما خوفهم بالطوفان رأوه يصنع السفينة في أرض لا ماء فيها، أي أنك تتعب دون فائدة وهذا من الضلال لأن السفينة لا تجري على اليبس، ولم يعلموا أن الذي أمره بعملها هناك قادر على إيجاد الماء لها، لهذا رد عليهم {قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 61} إليكم لأرشدكم و{أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي} أوامره ونواهيه مما يعود لنفعكم {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} فأرغبكم بفعل طاعته ليثيبكم عليها دار النعيم الدائم وأحذركم من معصيته لئلا يحل بكم عذابه الدنيوي ثم ترجعوا إلى عذابه في الآخرة، وهذا معنى النصح أما معنى الرسالة فهو عبارة عن تبليغ الرسول ما يوحى إليه من الذي أرسله إلى المرسل إليهم وتعريفه لهم وبيان ما يترتب عليه فعله وتركه وفعل نصح يتعدى باللام كما هنا وبغيره كقوله:
نصحت بني عوف فلم يتقبّلوا ** نصحي ولم تنجح لديهم رسائلي

إلا أن تعديه باللام أفصح لمجيئه بالقرآن نبع الفصاحة والبلاغة ومأخذها {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 62} من قدرته وشدة بطشه بأعدائه {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى} لسان {رَجُلٍ مِنْكُمْ} تعرفون نسبه ومكانته فيكم {لِيُنْذِرَكُمْ} سوء عاقبة عملكم وانكبابكم على الشرك {وَلِتَتَّقُوا} عقاب اللّه المترتب على عدم قبوله {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 63} برفع العذاب المقدر نزوله عليكم في الدنيا وبإنالة الجزاء الحسن في الآخرة لأن القصد من إرسال الرسل من اللّه إليكم هو الإنذار بالكف عن المعاصي والركون للتقوى التي مصيرها الفوز برحمة الله: {فَكَذَّبُوهُ} وجحدوا رسالته وأهانوه، فنزل بهم العذاب على الوجه المبين في الآية 40 من سورة هود في ج 2 قال تعالى: {فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ آمنوا مَعَهُ} من الغرق إذ أمرناهم أن يركبوا {فِي الْفُلْكِ} التي علمناه كيفية صنعها {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} عن بكرة أبيهم {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا عَمِينَ 64} عن الحق وطرقه، يقال عم لعمى البصيرة وعام لعمى البصر، قال زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غد عمي

وسيأتي أن عمى البصيرة يسمى عمها وسنذكر القصة مفصلة في تفسير الآية 25 من سورة هود فما بعدها في ج 2.
قال تعالى: {وَإِلى} قوم {عادٍ} أرسلنا {أَخاهُمْ هُودًا} بن شالخ بن ارفخشف بن سام بن نوح وقيل عبد اللّه بن رباح ابن الخلود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح ولهذا قال أخاهم لأنه منهم، وهذه عاد الاولى وكانت منازلهم بالأحقاف، الرمل عند عمان وحضر موت راجع ما بيناه عنهم في الآية 5 من سورة الفجر المارة وذكرهم في الآية 15 من فصلت في ج 2 والآية 21 من الأحقاف أيضا {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} ينعم عليكم فكيف تجعلون معه إلها آخر {أَفَلا تَتَّقُونَ 65} ففيه وتخافون عقابه فيعذبكم كما عذّب قوم نوح وذلك لان كيفية إغراقهم مستفيضة بينهم {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} المتوغلون بالكفر لأنهم كافرون ويأمرون غيرهم بالكفر بهود عليه السلام ويصدّونهم عن سماع نصحه والإيمان بربه {إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ} خفة عقل وسخافة رأي وحمق، وإنما قالوا له ذلك لأنه زيّف لهم عبادتهم ونسبهم للسفه وقلة العقل وعدم انصياعهم باتخاذ ربّ واحد فقابلوه بالمثل وزادوا عليه قولهم {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ 66} في ادعائك الرسالة من اللّه لأنّك رجل مثلنا {قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ} واني رجل مثلكم حقا {وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 67} أرسلني لنصحكم وأمرني {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي} التي خيرني بها عليكم {وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ 68} على تبليغها كما تلقيتها، وإنما قال أمين لأن إعلامهم بامانته واجب عليه ليعلموا أن ما يأمرهم به هو من أمر اللّه بلا زيادة ولا نقص وانه لم يأتهم بشيء من عند ولا ليمدح نفسه ولا بمقابلة قولهم {إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ} لأن من أدب الأنبياء وحسن خلقهم ترك المقابلة بالسوء وكظم ما يسمعونه من النقد والإغضاء عن حقارتهم لهم لأن أقوالهم تصدر عن حلم وأناة، وأقوال الكافرين من قوم عن جهل وسفاهة، وفيه تعليم للمقدرين للنصح والإرشاد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم، والفرق بين قول نوح أنصح وقول هود ناصح لأن قول نوح كان متماديا ليل نهار كما أخبر عنه ربه بقوله: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا} الآية 5 من سورته في ج 2، وقول هود منقطع ولأنه لم يعش فيهم ما عاش نوح وإن صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة بخلاف صيغة اسم الفاعل لدلالتها على الحال فقط.
ثم قال لهم {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ} المراد به هنا وفي الآية المنقدمة ما أرسلا به وأنزل عليهما من اللّه كما يقال للقرآن ذكر وقد يفسّر بالموعظة {مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} بأس اللّه وعذابه قصد نجاتكم {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ} ربكم {خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} في أرضه ومكنكم إياها بعد إهلاكهم إذا لم يبق من قومه الا من ركب السفينة وهم ثمانون نسمة.
وقد سميت الأرض التي نزلوا بها قرية الثمانين وهي معروفة حتى الآن بلفظ كردي هشتاند في الجزيرة قرب جبل الجودي الذي رست عليه {وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} طولا وقوة وكثرة عليهم، قيل كان طول أحدهم ما بين اثنى عشر ذراعا وستين ذراعا {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} نعمه المترادفة عليكم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 69} تفوزون برضائه لأن ذكر النعم يفضي إلى شكرها المؤدي إلى النجاة في الآخرة والزيادة في الدنيا، راجع الآية 7 من سورة ابراهيم في ج 2 {قالُوا أَ جِئْتَنا} كان له صلّى اللّه عليه وسلم معبدا يتعبد به قبل الرسالة فلما شرفه اللّه بها جاءهم ليأمرهم وينهاهم حسب تعاليم ربه التي تلقاها لذلك قالوا له أجئتنا من معبدك {لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} كما تزعم أن ليس رب غيره {وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا} من الآلهة عن طريق الاستفهام الإنكاري لاستبعادهم اختصاص العبادة بإله واحد وترك الأوثان والشرك الذي نشأوا عليه من قبل بعثته.
ومثله من هذه بالجهة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم إنه كان اتخذ غار حراء معبدا واعتزل قومه الذين كانوا يعكفون على عبادة الأصنام، حتى جاءته النبوة فيه فأنذر بها قومه وقالوا له مثل ما قالوا له آنفا، وقالوا له أيضا {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 70} في ادعائك الرسالة من اللّه إلينا وأن العذاب سينزل علينا ان لم نصدقك ونؤمن بربك {قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ} رجز أي عذاب عظيم أبدلت الزاي سينا فيه وأصل الرجس الاضطراب ثم شاع في معنى العذاب لاضطراب من يحل، به وقال بن زيد، الرجس بمعنى العذاب في كل القرآن مأخوذ من الارتجاس وهو الارتجاز {وَغَضَبٌ} سخط وطرد {أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ} لأحجار تعبدونها {سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ} آلهة وهي خلو من اسمها ومعناها، لا دليل لكم عليها باستحقاق العبادة لأنها لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع، فتسميتكم لها آلهة {ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} حجة أو برهان بل ابتدعتموها ابتداعا وكذلك آباؤكم الذين قلدتموهم بعبادتها لهذا أنصحكم أن تقلعوا عنها وتؤمنوا بالإله الواحد وإذا بقيتم مصرين على ذلك {فَانْتَظِرُوا} نزول العذاب من ربي بكم {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 7} وقوعه إيفاء لوعيد اللّه لكم ووعده لي باهلاككم ونجاتي وفي هذا تهديد شديد لهم ان لم يرجعوا عن كفرهم ويؤمنوا به وبربه وقد أوقعه عليهم بدليل قوله: {فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} لمن صدق وآمن بوعدنا ووعيدنا {وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} الدالة على صدق نبينا إنجازا لوعدنا له فأنزلنا بهم العذاب المترتب على تكذيبهم لنبيهم وعدم اكتراثهم به وأهلكناهم جميعا إهلاك استئصال لأن الدابر أصل الشيء أو الكائن خلفه فقطع دابرهم كناية عن تدميرهم عن آخرهم.
ولهذا فإن عادا الأولى لا خلف لها {وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ 32} بي ولا بالذي أرسلته إليهم ونفي الإيمان عنهم مع تكذيبهم اشعار بأنهم خصوا بالهلاك لإصرارهم على الكفر ولو لم يهلكهم لبقوا مصرين عليه ولم يؤمنوا، فهو كالعذر في عدم الصبر عليهم.

.مطلب قصة هود عليه السلام:

وخلاصة القصة أن قوم هود تبسطوا في الأرض وعتو عتوا شديدا بما أعطوه من القوة والمال والكثرة، وكان لهم ثلاثة أصنام الصداء والصمود والهباء، وقد تغالوا في عبادتها وكان هود عليه السلام اعتزلهم إلى أن أرسله اللّه إليهم فأبدى لهم نصحه وخوّفهم وحذرهم مرفضوا الإصغاء إليه فأمسك اللّه عنهم القطر ثلاث سنين، وكانت عادتهم إذا نزل بهم بلاء فزعوا إلى بيت اللّه الحرام يطلبون الفرج منه عند بيته، ولما طال عليهم الأمر أوفدوا سبعين رجلا من خيارهم إلى بيت اللّه برئاسته قيل بن عنتر ونعيم بن هزال ومرثد بن سعد وكان مؤمنا يكتم إيمانه مثل مؤمن آل فرعون الذي سخره اللّه لموسى عليه السلام، فنزلوا على معاوية ابن أبي بكر عميد العماليق نسبة إلى جدهم عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وهم أخوال معاوية هذا، حينما كان مخيّما بظاهر مكة شرفها اللّه، وهو يومئذ سيد مكة، فأبطأوا عنده يشربون الخمور ويأكلون السمين ويسمعون غناء الجرادتين ومن جملة ما غنتهم به قول معاوية المذكور الذي علمه لهما وأمرهما بغنائه ليتيقظوا من غفلتهم وليحرضهم على إيفاء ما جاءوا لأجله من عند قومهم وهو:
ألا يا قيل ويحك قم وهينم ** لعل اللّه يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا ** قد امسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس ترجو ** به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير ** فقد أمست نساؤهم أيامى

وان الوحش تأتيهم جهارا ** ولا تخشى لعاديّ سهاما

فقبّح وفدكم من وفد قوم ** ولا لاقوا التحية والسلاما

ولما فرغتا منه تيقظوا وقال لهم مرثد واللّه لا تسقون ما لم تطيعوا نبيكم هودا وأظهر إيمانه وطفق يلومهم بقوله:
عصت عاد رسولهم فأمسوا ** عطاشا ما تبلهم السماء

لهم صنم يقال لهم صمود ** يقابله صداء والهباء

فبصرنا الرسول سبيل رشد ** وأبصرنا الهدى وجلي العماء

وإن إله هود هو إلهي ** على اللّه التوكل والرجاء

فقد حكم الإله وليس جورا ** وحكم اللّه ان غلب الهواء

على عاد وعاد شر قوم ** فقد هلكوا وليس لهم بقاء

واني لن أفارق دين هود ** طوال الدهر أو يأتي الفناء

ثم بادر بإرشاد الوفد لطاعة هود فلم يفعلوا وردّوا عليه شر ردّ وبقوا مصرين على كفرهم وعبادة أوثانهم وأنفتهم من اتباع هود وقال طهمة بن البحري يرد على مرثد بن سعد.
الا يا سعد إنك من قبيل ** ذوي كرم وانك من ثمود

فإنا لا نطيعك ما بقينا ** ولسنا فاعلين لما تريد

أتأمرنا لنترك دين قوم ** ورمل والصداء مع العمود

ونترك دين آباء كرام ** ذوي رأي ونتبع دين هود

وقالوا لمعاوية احبس عنا مرثدا وخرجوا إلى مكة ولما توسطوا الحرم قال قيل اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم وأتى على دعائه الوفد كله ثم لحق بهم مرثد حيث أطلقه معاوية بعد ذهاب الوفد من عنده ورفع يديه إلى اللّه وقال اللهم اعطني سؤلي برا وصدقا ولا تدخلني فيما يدعونك، فأعطي سؤله، ثم جاء لقمان بن عاد وهو سيدهم أي سيد الوفد وقال: اللهم إني جئنك وحدي في حاجتي فأعطني طول العمر، فأعطى عمر سبعة أنسر، عاش كل واحد ثمانين سنة آخرهم اسمه لبيد، وقال قيل اللهم إني اختار لنفسي ما يصيب قومي، فقيل له إنه الهلاك، فقال: لا أبالي لا حاجة لي بالبقاء بعدهم، فأجاب اللّه لكل دعوته.